الحياة الثقافية في القدس 637م – 1948م
صدر للباحث جاسر علي العناني المتخصص في شؤون القدس الكتاب الخامس الذي يطل على الحياة الثقافية في مدينة القدس في العهود الإسلامية المختلفة، منذ أن حط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رحاله في هذه المدينة ووقع عهدته العمرية الشهيرة لسكانها، عاشت المدينة حياة جديدة وشهدت أماناً لم تشهده من قبل حيث تعودت البطش والدمار والدم من الغزاة عبر تاريخها الطويل، ولكنها ومنذ هذه العهدة العمرية الفذة شهدت التقدير والتقديس والاحترام لأرضها وإنسانها على حد سواء وأصبحت منارة تشع بالنور على أهلها وعلى من جاورها أو تلامس معها بأي شكل من الأشكال.
فالثقافة في هذه المدينة لها مذاقها الخاص وتحددها ملامح وأحداث لا تتوفر لأي مكان آخر على وجه هذه الأرض. فقد تشرف ثراها الطاهر بنبي الرحمة وخاتم الأنبياء المرسلين محمد (صلى الله عليه وسلم) يصلي إماماً بإخوته الأنبياء الكرام في ساحة مسجدها الأقصى ليلة الإسراء والمعراج العظيمة وما أكثر ما تبع هذه الليلة من أحداث صبغت وجه هذه المدينة بالسلام وسماحة الإسلام، حيث مسجدها الأقصى كان بداية لقبلة المسلمين عند توجههم إلى خالقهم في الصلاة وما أنجب هذا المسجد من علماء وفقهاء ملؤوا الدنيا بعلمهم وانتشر تلاميذهم في سائر بقاع الأرض.
وتوالت العهود الإسلامية على هذه المدينة وشهدت فترات تخللتها موجات مد وجزر في أحوال المسلمين إلا أن كل عهد من عهود الإسلام بقي حريصاً أن يترك بصمات تحفظ له اسماً بارزاً بين أسماء الذين عمروا هذه المدينة، فتراكمت الثقافة فيها عبر هذه العصور وصولاً إلى عصرنا الحالي ضمن نسق إسلامي متميز حافظ على سماته الأصلية ونبعه الصافي ومن دون أن يحارب أو يلغي ثقافة الشرائح الثقافية الأخرى من غير المسلمين، حيث ضمن لهم حرية التعبير، وحرية المظهر، واحترام معتقداتهم ولم يجبرهم على اتباع الإسلام بالضغط والإكراه، مما جعل لهؤلاء السكان حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر ولكنهم يعتزون بثقافتهم الإسلامية وانتمائهم العربي. حيث لم يعرف في تاريخ هذه المدينة أن نشب خلاف بين سكانها على قاعدة دينية تفرق بين الناس، لا بل فإنه ليس أكثر دلالة على صدق هذا التسامح من أن تكون مفاتيح كنيسة القيامة في عهدة عائلة مسلمة بالإضافة إلى وقوف سكان هذه المدينة صفاً واحداً لمقاومة الاحتلال الصهيوني من دون الالتفات إلى المعتقدات الدينية للسكان فبهذه الصفات الفريدة تميزت الحياة الثقافية في هذه المدينة.
ويأتي هذه الكتاب الذي جمع بين دفتيه عشرة أبواب بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة وأبرز دور هذه المدينة وتأثيرها حتى عشية احتلالها من قبل العصابات الصهيونية التي لا تمت بصلة إلى حضارة أو دين وإنما ولاءها لمصلحة سياسية استعمارية وجودها مرهون بظروف حالة الضعف والفرقة بين العرب، وإن اللصوص في العادة لا يصنعون حضارة ولا يتركون ثقافة، وإنما تعنيهم غفلة أهل البيت فقط ليتمكنوا من السرقة، وهم يعلمون علم اليقين أن هذه الغفلة طالت أو قصرت فإنها مؤقتة لابد أن تأتي لحظة الانتباه لما يجري.
ففي الباب الأول من هذه الكتاب – القدس محطات الزمان والمكان – استعراض تاريخي سريع لأهم المنعطفات التاريخية التي مرت بها المدينة حتى نتعرف على طبيعة هذا المكان الذي نشأت بين جنباته هذه الثقافة وتطورت.
أما الباب الثاني فيتعرض إلى أوصاف بيئة المدينة التي أثرت على الحياة الثقافية فيها منذ القدم وحتى عصرنا الحالي. والباب الثالث من الكتاب يلتقط صورتين تراثيتين واحدة من العصر المملوكي وأخرى من العصر العثماني على لسان مؤرخين بارزين كتبوا عن هذه المدينة وعايشوا أحداثها، حيث الصورة التي نقلها – مجير الدين الحنبلي – من العصر المملوكي وصورة نقلها الرحالة التركي – أوليا جلبي -.
وفي الباب الرابع يستعرض الكتاب أهم مؤثر في الحياة الثقافية في المدينة وهو وجود المسجد الأقصى من بداية وجوده مروراً بالإسراء والمعراج وفضائل هذا المسجد وما دار حوله من ادعاءات من اليهود بهذه إزالته وإحلال هيكلهم المزعوم مكانه.
أما الباب الخامس والسادس فإنهما يرصدان الحياة الاجتماعية لأهل القدس في أفراحهم وأتراحهم وعاداتهم وتقاليدهم ولباسهم وشتى مناحي الحياة الأخرى.
والباب السابع يتعرض للتعليم والثقافة في المساجد والمدارس والمؤسسات الأخرى وكذلك إلى التعليم عند غير المسلمين، وأهم المكتبات في المدينة وكذلك الأبنية والعمران.
والباب الثامن يعطي صورة شمولية للقدس في أواخر فترة الانتداب البريطاني حيث أن عرض هذه الصورة بشكل شمولي هو في الحقيقية للرد على المقولة الصهيونية (إن الصهاينة جاءوا على هذه الأرض وهي خراب) وهم يدعون أعمارها زوراً وكذباً، فكان الحرص على إبراز صورة المدينة من كافة النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية رداً على هذه المقولة الصهيونية البائسة.
أما الباب التاسع فيصف الحالة الأمنية في القدس ومستوى المعيشة في المدينة وجوارها قبل استيلاء الصهاينة عليها.
والباب العاشر والأخير في هذه الكتاب فإنه يذكر بأهم أعلام المدينة في العصر الحديث ويعدد العائلات المقدسية التي تسكن هذه المدينة التي تحاول السلطات الصهيونية اقتلاعها من المدينة لإلغاء هويتها وطمس ثقافتها. ويأتي هذا الكتاب الذي صدر بدعم من أمانة عمان ليضع صورة الحياة الثقافية في هذه المدينة المقدسة ضمن إطار واحد حرصاً على عدم تشتت الصورة بين صفحات الكتب والدراسات المختلفة التي تتناول المدينة.