حين تسكت الكلمات
للقدس في البال قصة مؤجلة الكتابة، تغفو وتصحو هناك فوق مساحة أحلام خاصة تعرفها أسرة تعيش بالمناصفة بين الوطن والغربة.
خُطّ حرفها الأول مع وضع أول مدماك في سوق القدس القديم وتحديداً في ذلك الممر الطويل الناقل من الظلمات إلى النور.
لا تسعفني لوصف جغرافيا القصة كلّ الخرائط التي رُسِمت للقدس من العهد القديم وحتى اليوم، ولكنني سأحاول وسأرسم خريطةً حدّدت خطوطها ذكريات أسرةٍ جاءت في ذات صيف إلى الوطن وذهبت في زيارة إلى القدس.
مفاتيح الخريطة زوجة مبعدٍ وطفل وطفلة وحقيبة يد بنية اللون بها هوية خضراء مسجّل بها بلغة لا نقرأها اسم الطفل والطفلة، وبداخلها طُوِيَ بعناية خاصة تصريح زيارة ينتهي تاريخه بعد يومين.
وفي قلوبهم جميعاً تتردّد توصيات الأب المبعد وكلماته الأخيرة لحظة الوداع فوق جسر خشبي يحكي أزيز ارتجاجه عن ويلات حدثت:
- "إياكم ما تزوروا القدس وهناك ادعوا لي..... وسلموا لي عَ بلاد الندى".
ساروا باندفاع طفلين ولهاث أمّ أتعبتها الطرقات، تحرّر بين الحين والآخر أصابعها المتعرّقة من بين أصابع طفلتها لتمسح حبات العرق التي ما تلبث تنمو من جديد على جبينها الضيّق، فترفع بانزعاج يدها الأخرى، وتثبت من جديد "غدفتها" الحريرية المتهدلة، تلك التي جاءت على رأسها وكأنّها الدليل الوحيد على حالة ترف تجسدها امرأة فقيرة.
حال "غدفة" الأم كحال نساء بلادنا البسيطات اللواتي يحاولن أحياناً -رغم آلامهن وتعبهن وفقرهن- استعمال الأشياء الجميلة المستوردة لصعوبة الحاجة من عالم المترفين، ليثبتْنَ جمالية التناقض المتأرجح بين الفقر والتجمّل.
وحال "غدفتها" يشبه أيضاً حال أطفال الفقراء وملابسهم "اللميعية" ذات الألوان الفاقعة التي يسمّيها البرجوازيون المتمدّنون "ألوان بَلدي".
وبالمناسبة؛ هذه الألوان البلدي جزءٌ مهم من خريطة القدس، يرتديها الفلاحون والفقراء اللاجئون دوماً لأحضان القدس، وكأنّما يقولون لمجتمع الطبقات: نعم نحن فلاحون، وهذه ألواننا ونحبّها وعليكم أنْ تقبلونا كما نحن، وعليكم أنْ تقبلوها.
وبين مسح عرق الجبين ومسك يد الطفلة قصدت الأم دوماً أنْ توصل لطفليها رسالة:
- "هذه القدس يامى، وبدنا فيها نصلي".
ويكمل الطفل بكلّ ما أوتِيَ من وفاء الرجال:
ـ "وبنستدعي لأبوي".
وتكمل الطفلة:
ـ "وبنقول للقدس أبونا بسلم عليك".
تضحك الأم المتشتّتة بين الاستمتاع ببراءة طفليها وحذرها من بنادق تخرج من كلّ حدبٍ وتصوّب إلى كل صوب.
وبعد وقتٍ لا يتبع الزمن ولا يمكن حسبانه أو نسيانه لأنّه خارج نطاق العمر؛ يطلّ نورٌ من إطار بوابة خضراء كبيرة لها تاجٌ مثلّث عال وكأنّه هو ما يرفع السماء، تظهر من خلالها "قبة الصخرة" تتربع فوق مسطح من القدسية وكأنها بلقيس فوق عرشها، وكأنها ملكة العالم.
يخترقون البوابة بعد أنْ يشوّش مسامعهم سؤالٌ غريبٌ من رجل غريب وبلغة غريبة:
ـ "وين رايحين"؟
كان تافهاً هذا الجزء من المشهد، كأنّه لا شيء أمام رهبة اللحظة ودقّ القلوب، يتجاوزونه ويقفون بعد اختراق البوابة، وإذا بهم في مكانٍ آخر مختلف عن عالم كانوا فيه للتوّ، ربما هم في الجنة الآن.
صرخ الطفل بأعلى صوته موجّهاً كلماته لقبة الصخرة:
- "يا رب رجّع أبوي عَ البلاد".
وبحرارة أكبر صرخت الطفلة:
- "أبوي بسلم عليكِ".
ارتجفت الأم خوفاً ونظرت حولها لترصد ردة فعل الجنود، وقالت لهما ورهبة الصرخات تكاد تسقطها:
- "اسكتوا".. وأكملت بهدوء: "يللا نصلي".
* أديبة فلسطينيّة من رام الله.